كيف حول القذافي الصحراء الليبية إلى نهر صناعي عظيم

وصفت الصحف الغربية المشروع بأنه "العجيبة الثامنة في العالم"، وصنفته بين أكبر المشاريع في التاريخ، بينما أطلق عليه الليبيون "شريان الحياة للأمة". يمتد هذا المشروع الضخم على آلاف الكيلومترات، حيث ينقل المياه من الجنوب إلى الشمال لري الأراضي وتوفير المياه للسكان. بلغت تكلفة المشروع 25 مليار دولار واستغرق سنوات عديدة من العمل الشاق، مع وجود مخاطر كبيرة على طول الطريق.

Great man_made River
النهر الصناعي العظيم

اعتبر معمر القذافي هذا المشروع حلمه، بينما وصفته المعارضة بأنه مشروع كبرياء. وبعد رحيل القذافي، أصبح المشروع بأكمله مهددًا، وتم قطع تدفق المياه في بعض الأحيان بسبب المخاطر المستمرة.

النهر الصناعي العظيم في ليبيا: نعمة أم استعراض؟

تعود القصة إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما بدأت شركات النفط بالبحث عن الذهب الأسود في جنوب ليبيا. لعدة عقود، كان معروفًا أن السكان الليبيين يتركزون في المناطق الشمالية، التي كانت أيضًا تضم أكثر الأراضي الزراعية خصوبة. ولكن هذه المناطق كانت تفتقر إلى المياه العذبة، حيث لم يكن بها مياه جوفية أو أنهار. أثناء استكشاف النفط، تم اكتشاف الكنز الحقيقي لليبيين—كميات هائلة من المياه الجوفية في منطقة الكفرة الواقعة في جنوب شرق الصحراء الليبية.

Here Flows the Lifeline: The Great Man-Made River
"Here Flows the Lifeline: The Great Man-Made River"

هذا الخزان المائي كان قديمًا للغاية، وتُقدر عمره بين 10,000 سنة ومليون سنة. أشارت التحليلات إلى أن المياه تسربت إلى الصخور الرملية قبل نهاية العصر الجليدي الأخير، عندما كان المناخ في المنطقة الصحراوية أكثر اعتدالًا. خططت الحكومة الليبية في البداية لمشاريع زراعية ضخمة في قلب الصحراء، لكن لم يتحقق شيء. على مر السنين، تفاقمت أزمة نقص المياه في شمال ليبيا، مما دفع القذافي إلى إطلاق ما أطلق عليه مشروع حلمه، والذي كان يعتقد أنه سيخلد ثورة شعبه.

في الثمانينيات، واجه القذافي عدة خيارات: تحلية مياه البحر، وهو ما كان سيكلف 270 دولارًا لكل متر مكعب؛ بناء مدن جديدة في الجنوب الغني بالمياه؛ أو نقل المياه من الجنوب إلى الشمال. أشارت التقارير إلى أن نقل المياه سيكون الخيار الأقل تكلفة. وفي أغسطس 1984، وضع القذافي حجر الأساس للمشروع الذي أطلق عليه "النهر الصناعي العظيم".

يتألف النهر من 1,300 بئر، يصل عمق معظمها إلى حوالي 500 متر، وأنابيب تمتد لمسافة 4,000 كيلومتر من الجنوب الشرقي والجنوب الغربي إلى الشمال، حيث تنقل 6.5 مليون متر مكعب من المياه يوميًا إلى مدن رئيسية مثل الزاوية، طرابلس، بنغازي، طبرق، سرت، وأجدابيا. بدأت الهيئة العامة للنهر الصناعي العظيم، التي أنشأتها الحكومة لإدارة المشروع، المرحلة الأولى في نفس العام. تم حفر مئات الآبار في حقلي "تازربو" و"السرير"، وتم ضخ المياه من عمق حوالي 500 متر تحت الأرض عبر أنبوب مزدوج إلى خزان في أجدابيا، الذي استلم أول دفعة من المياه في عام 1989. ومن هناك، تم ضخ المياه غربًا إلى مدينة سرت الساحلية وشمالًا إلى بنغازي.

Map of Libya, showing the Tazirbi and Al-Sarir fields and how water is distributed
خريطة ليبيا تُظهر حقول تازربو والسرير وكيفية توزيع المياه

تم الاحتفال بالمرحلة الأولى رسميًا في بنغازي عام 1991، وفي ذلك الوقت كان النهر قادرًا على نقل 2 مليون متر مكعب من المياه يوميًا عبر 1,600 كيلومتر من الأنابيب. اكتملت المرحلة الثانية في عام 1996، وجلبت المياه إلى العاصمة طرابلس. أما المرحلة الثالثة فلم تُستكمل حتى عام 2009، بينما لا تزال المرحلة الرابعة غير مكتملة حتى يومنا هذا.

هذا المشروع الضخم حطم العديد من الأرقام القياسية العالمية، كونه أكبر مشروع لنقل المياه في العالم. كانت الأنابيب المستخدمة في نقل المياه هي الأكبر على الإطلاق، وقد صُممت خصيصًا لهذا الغرض وتم تصنيعها في مصنعين تم بناؤهما في ليبيا لهذا الغرض. كل أنبوب يبلغ قطره 4 أمتار وطوله 7 أمتار، ويُوضع في خنادق بعمق 7 أمتار. تم تنفيذ البناء بواسطة شركة كورية جنوبية، بينما قام مصممون بريطانيون بوضع الخطط. كان فريق العمل بأكمله ليبيًا، وتم تمويل المشروع بالكامل من خزينة الدولة الليبية دون قروض خارجية أو دعم.

الأرقام مذهلة: كمية الأسمنت المستخدمة في إنتاج الأنابيب وصلت إلى 5 ملايين طن، وهي كمية تكفي لتعبيد طريق خرساني من مدينة سرت الليبية إلى مومباي في الهند. وعلى الرغم من الدعاية الضخمة التي استطاع القذافي خلقها للمشروع وتوصيل بعض المياه إلى المدن، كانت الحقيقة مختلفة. فعلى الرغم من تكلفة المشروع البالغة 25 مليار دولار، استمرت ليبيا في الاعتماد على مصادر مياه أخرى حتى قبل سقوط القذافي. هذا الأمر أثار تساؤلات حول أهمية المشروع وقيمته مقارنة بتكلفته، خاصة وأن المواطنين ما زالوا يحصلون على أقل من 1,000 متر مكعب من المياه للفرد الواحد—وهو أقل من خط الفقر المائي.

River Industrial Corporation in Libya
خزان النهر الصناعي في ليبيا

بعد اندلاع الثورة الليبية، تعرض أحد المصنعين المسؤولين عن إنتاج الأنابيب لضربة جوية من حلف الناتو في يوليو 2011، حيث زُعم أن القذافي كان يستخدم المصنع كمستودع للأسلحة. هذا تسبب في تراجع كبير في خطوط إمدادات المياه الخاصة بالمشروع. ثم وقع المشروع في أيدي تنظيم داعش، الذي ألحق المزيد من الأضرار. وفي أوقات مختلفة، استهدف المشروع من قبل فصائل مختلفة للسرقة أو لاستخدامه كورقة ضغط على الجماعات المتنافسة.

ولكن المشاكل لم تبدأ مع الثورة. ففي وقت مبكر من عام 2000، بدأت تظهر تشققات في المشروع، الذي كان يُعتبر حينها الأغلى في العالم. على الرغم من إنفاق 10 مليارات دولار حتى ذلك الوقت، لم يكتمل المشروع وكان اثنان فقط من الفروع الأربعة قيد التشغيل. كان أحد الفروع يعمل بنسبة 20% فقط من طاقته، بينما كان الآخر يعاني من تسربات متكررة. قام القائمون على المشروع ببناء برك كبيرة في مواقع التسرب، مدعين أنها خزانات للمياه لسكان المنطقة، رغم أن بعضها كان يقع في وسط الصحراء.

أشارت التقارير أيضًا إلى أن المياه الجوفية التي يتم نقلها لن تدوم إلى الأبد، وأنها ستجف في نهاية المطاف، حيث إنها غير قابلة للتجدد. كان القذافي قد زعم أنها ستدوم لقرون، ومع ذلك لا يزال النهر الصناعي العظيم أكبر أمل لليبيا في مواجهة الجفاف القادم. في حقبة ما بعد القذافي، يواجه هذا المشروع الضخم تهديدات متواصلة، وستكون هناك حاجة إلى جهود كبيرة لحماية هذا الشريان الحيوي وضمان المياه للأجيال القادمة.

Motake Kamal
بواسطة : Motake Kamal
libyan Writer, student of law & pharmacy
تعليقات